الأدلة من الكتاب والسنة تحرم الأغاني والملاهي وتحذر منها
لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد في عددها السابع والستين والثامن والستين بقلم أبي تراب الظاهري تحت عنوان: [الكتاب والسنة لم يحرما الغناء ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها] وتأملت ما ذكره في هذا المقال من الأحاديث والآثار وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعاً لإمامه أبي محمد ابن حزم الظاهري، فتعجبت كثيراً من جرأته الشديدة تبعاً لإمامه أبي محمد على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الملاهي، بل على ما هو أشنع من ذلك، وهو القول بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة، وعجبت أيضاً من جرأتهما الشديدة الغريبة على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان، ولقد أنكر أهل العلم قديماً على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة وعابوه بها، وجرى عليه بسببها محن كثيرة، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه وعن سائر المسلمين.
ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان، وأخبر عز وجل أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[1].
وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[2]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[3]، فحذر الله سبحانه عباده في هذه الآيات الكريمات من التحليل والتحريم بغير علم، وبين سبحانه أن القول عليه بغير علم في رتبة رهيبة فوق الشرك، ونبه عباده على أن الشيطان يحب منهم القول على الله بغير علم، ويأمرهم به ليفسد عليهم بذلك دينهم وأخلاقهم ومجتمعهم، فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم، وأن يتجرد من الهوى والتقليد الأعمى، وأن يقصد إيضاح حكم الله لعباد الله على الوجه الذي بينه الله في كتابه أو أرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته نصحاً لله ولعباده، وحذراً من كتمان العلم، ورغبة في ثواب الله على ذلك، فنسأل الله لنا ولسائر إخواننا التوفيق لهذا المسلك الذي سلكه أهل العلم والإيمان، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير.
وأنا ذاكر لك أيها القارئ - إن شاء الله - ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه أبي محمد من الأخطاء، وموضح لك ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة والآثار في تحريم الغناء وآلات الملاهي، وذاكر من كلام أهل العلم في هذا الباب ما يشفي ويكفي، حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم وحتى يزول عن قلبك - إن شاء الله - ما قد علق به من الشبه والشكوك التي قد يبتلي بها من سمع مقال أبي تراب وأضرابه من الكتاب، وبالله نستعين، وعليه نتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو تراب: (وتحقيق المسألة أن الغناء وآلاته والاستماع إليه مباح، لم يرد في الشريعة - التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم - نص ثابت في تحريمه البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين وهما الكتاب والسنة، وما سواهما فهو شغب وباطل مردودة ولا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعاً... إلى أن قال في أثناء مقاله... قال الحافظ أبو محمد ابن حزم: بيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير حلال كله، من كسر شيئاً من ذلك ضمنه إلا أن يكون صورةً مصورة، فلا ضمان على كاسرها، لما ذكرنا من قبل؛ لأنها مال من مال مالكها).
أقول: لقد أخطأ أبو محمد، وأخطأ بعده أبو تراب في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي، وفتحا على الناس أبواب شر عظيم، وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان وحملة السنة والقرآن، من الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإن ذلك لعظيم، وخطره جسيم، فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية من زيغ القلوب ورين الذنوب، وهمزات الشيطان، إنه جواد كريم.
ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام وجمهور أئمة الهدى إلى تحريم الأغاني وجميع المعازف، وهي آلات اللهو كلها، وأوجبوا كسر آلات المعازف وقالوا: (لا ضمان على متلفها)، وقالوا: (إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل والمزمار والعود وأشباه ذلك، حرم بالإجماع)، إلا ما يستثنى من ذلك من دق النساء الدف في العرس ونحوه، على ما يأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء الإسلام على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا، كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم رحمه الله، وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها وصدها عن القرآن الكريم واستماع العلوم النافعة، ولا شك أن ذلك من مكايد الشيطان، التي كاد بها الناس وصاد بها من نقص علمه ودينه حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره، بدلاً من سماع كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي، ووصفوه بالسفه والفسق، وقالوا: لا تقبل شهادته، كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك - إن شاء الله -، وما ذلك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان، وقلة الحياء والورع، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، ولما يبتلي به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة، والارتياح إلى الباطل، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنا واللواط وشرب الخمور، ومعاشرة النسوان والمردان، إلا من عصم الله من ذلك. ومعلوم عند ذوي الألباب ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال.
وإليك - أيها القارئ الكريم - بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[4].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هاتين الآيتين ما نصه: (لما ذكر حال السعداء وهم: الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ..[5] الآية، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء والألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[6]، قال: (هو والله الغناء). وروى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله ابن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فقال عبد الله بن مسعود: (الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات).
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا حميد الخراط، عن عمار عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، قال: (الغناء)، وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بديمة، وقال الحسن البصري: (نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، في الغناء والمزامبر)، وقال قتادة: (قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، والله لعله لا ينفق فيه مالاً، ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع) انتهى كلامه.
فتأمل - أيها القارئ الكريم - هاتين الآيتين الكريمتين، وكلام هذا الإمام في تسيرهما، وما نقل عن أئمة السلف في ذلك، يتضح لك ما وقع فيه أرباب الأغاني والملاهي من الخطر العظيم، وتعلم بذلك صراحة الآية الكريمة في ذمهم وعيبهم، وأن اشتراءهم للهو الحديث، واختيارهم له من وسائل الضلال والإضلال، وإن لم يقصدوا ذلك، أو يعلموه، وذلك لأن الله سبحانه مدح أهل القرآن في أول السورة، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة، وأخبر أنهم أهل الهدى والفلاح، حيث قال عز وجل: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[7]، ثم قال سبحانه بعد هذا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ..[8] الآية، وذلك يدل على ذم هؤلاء المشترين، وتعرضهم للضلال بعد الهدى، وما كان وسيلة للضلال والإضلال فهو مذموم، يجب أن يحذر ويبتعد عنه، وهذا الذي قاله الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قاله غيره من أهل التفسير كابن جرير والبغوي والقرطبي وغير واحد، حتى قال الواحدي في تفسيره: أكثر المفسرين على أن لهو الحديث هو الغناء، وفسره آخرون بالشرك، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم وبالأحاديث الباطلة التي تصد عن الحق؛ وكلها تفاسير صحيحة؛ لا منافاة بينها، والآية الكريمة تذم من اعتاد ما يصد عن سبيل الله ويلهيه عن كتابه، ولا شك أن الأغاني وآلات الملاهي من أقبح لهو الحديث الصاد عن كتاب الله وعن سبيله.
قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - في تفسيره - لما ذكر أقوال المفسرين في لهو الحديث - ما نصه: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: عني به كل ما كان من الحديث ملهياً عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه، أو رسوله؛ لأن الله تعالى عم بقوله: لَهْوَ الْحَدِيثِ ولم يخصص بعضاً دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدل على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك) انتهى كلامه.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ[9]، (قال: (من) في موضع رفع بالابتداء، ولهو الحديث الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما)، ثم بسط الكلام في تفسير هذه الآية، ثم قال: (المسألة الثانية: وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق، فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام) انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله، فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا)، وفي روايةٍ لمسلم فقال رسول الله: ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)). وفي روايةٍ له أخرى، فقال: ((دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد))، وفي بعض رواياته أيضاً: ((جاريتان تلعبان بدف))، فهذا الحديث الجليل يستفاد منه أن كراهة الغناء وإنكاره وتسميته مزمار الشيطان أمر معروف مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها، وسماه مزمار الشيطان، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم تلك التسمية، ولم يقل له: إن الغناء والدف لا حرج فيهما وإنما أمره أن يترك الجاريتين، وعلل ذلك بأنها أيام عيد، فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذا للجواري الصغار في أيام العيد؛ لأنها أيام فرح وسرور، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث، فيما يتعلق بالشجاعة والحرب، بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم، فإنه يثير الغرائز الجنسية، ويدعو إلى عشق الصور، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه، فكيف يجوز لعاقل أن يقيس هذا على هذا، ومن تأمل هذا الحديث علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر، يجب التحذير منه حسماً لمادة الفساد، وحفظاً للقلوب عما يصدها عن الحق، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه.
وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقاً، فدعوى باطلة، لما تقدم بيانه، والآيات والأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، كلها تدل على بطلان دعواه. وهكذا الحديث الذي رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي، عن عامر بن سعد البجلي، أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد، وهم في عرس وعندهم غناء، فقلت لهم: (هذا وأنتم أصحاب رسول الله، فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح)، فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقاً، وإنما يدل على جوازه في العرس، لإعلان النكاح، ومن تأمل هذا الحديث عرف أنه دليل على منع الغناء، لا على جوازه، فإنه صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم " في الغناء " في العرس لحكمة معلومة، دل على منعه فيما سواه، إلا بدليل خاص، كما أن الرخصة للمسافر في قصر الرباعية يدل على منع غيره من ذلك، وهكذا الرخصة للحائض والنفساء في ترك طواف الوداع يدل على منع غيرهما من ذلك، والأمثلة لهذا كثيرة، وأيضا فإنكار عامر بن سعد على هؤلاء الصحابة الغناء وإقرارهم له على ذلك، دليل على أن كراهة الغناء والمنع منه أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين وعرفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله المستعان.
قال العلامة ابن القيم - رحمة الله عليه - في كتابه [إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان] ما نصه: (ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفةً على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً..). إلى أن قال - رحمه الله –: (ولقد أحسن القائل:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفــة لكنه إطـراق ســاه لاهـي
وأتى الغناء، فكالحمير تناهقـوا والله ما رقصوا لأجـل اللـه
دف ومزمار ونغمة شـــادن فمتى رأيت عبادة بمـلاهـي
ثقـل الكتاب عليهم لمـا رأوا تقييـده بأوامـر ونـواهـي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى زجرا وتخويفا بفعل منـاهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عـن شهواتها، يا ذبحها المتناهـي
وأتى السماع موافقاً أغراضهـا فلأجل ذاك غدا عظيم الجـاه
أين المساعد للهوى من قاطـع أسبابه، عند الجهول الساهـي
إن لم يكن خمر الجسـوم فإنـه خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابـه وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيـق ذا أثوابـه من بعد تمزيق الفـؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالت حريـم والتأثيـم عنـد اللـه
وقال آخر:
برئنا إلى الله من معشــر بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت: يا قوم أنتم على شفا جرف ما بـه من بنا
شفا جرف تحتـه هــوة إلى درك كم به مـن عنـا
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعـذر فيـهم إلى ربنـا
فلما استهانوا بتنـبيهنـا رجعنا إلى الله في أمرنـا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنـا، تنتنــا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة). انتهى كلامه رحمه الله.
شبهة يجب أن تكشف:
زعم أبو تراب. تبعاً لابن حزم، أن قوله سبحانه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا..[10] الآية، دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي، لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال أو الإضلال، أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه فلا بأس في ذلك، والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوهٍ ثلاثة:
الأول: أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا الشرط الذي قاله أبو تراب، وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم.
الوجه الثاني: أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها؛ لأن الله سبحانه قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال، ولو كان اشترى لهو الحديث وهو يعلم أنه يضل به أو يقصد ذلك لم يقل الله عز وجل: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ[11]؛ لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله لا يقال له: إنه لا يعلم، وهكذا من قصد ذلك لا يقال: إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم؛ لأن من علم أن غايته الضلال أو قصد ذلك قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد، لا ليضل بغير علم، فتأمل وتنبه - أيها القارئ الكريم - يتضح لك الحق، وعليه تكون " اللام " في قوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لام العاقبة، أو لام التعليل، أي تعليل الأمر القدري. ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره، وعلى كونها للعاقبة يكون المعنى: أن من اشترى لهو الحديث من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله، والإضلال واتخاذ سبيل الله هزواً، والإعراض عن آيات الله، استكباراً واحتقاراً، وإن لم يشعر بذلك، ولم يقصده.
وعلى المعنى الثاني، وهو كونها لتعليل الأمر القدري، يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله، وعلى كلا التقديرين فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث ووعيده بأن مصيره إلى الضلال والاستهزاء بسبيل الله، والتولي عن كتاب الله، وهذا هو الواقع الكثير، والمشاهد ممن اشتغل بلهو الحديث من الأغاني والمعازف، واستحسنها وشغف بها، يكون مآله إلى قسوة القلب والضلال عن الحق إلا من رحم الله، وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها ومواردها على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد والتحذير منها، حذراً من الوقوع في غاياتها، كما نهى النبي عن شرب القليل الذي لا يسكر، حذراً من الوقوع في المسكر، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام))، ونهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها، ونظائر ذلك كثيرة يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة، والله المستعان.
الوجه الثالث: أنه لو كان الذم مختصاً بمن اشترى لهو الحديث لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب عز وجل على لهو الحديث فائدة؛ لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئاً يقصد به الضلال أو الإضلال حتى ولو كان ذلك الشيء محبوباً إلى الله سبحانه وتعالى، كمن اشترى مصحفاً يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه عز وجل، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير، وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعماً أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل. فعرفت - أيها القارئ الكريم - من هذه الأوجه الثلاثة، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمهما، وأنها وسيلة للضلال والإضلال والسخرية بسبيل الله، والإعراض عن كتابه، وإن لم يشعر مشتروها بذلك، وهذا هو الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، وهم أولى بالإتباع رضي الله عنهم. وسبق لك كشف شبهة أبي تراب في تعلقه بحديث الجاريتين، وكشف شبهته الأخرى في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس، وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب، وإمامه ابن حزم في النهي عن الأغاني والمنع منها لا على جوازها والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقد تكلم العلامة ابن القيم رحمه الله على الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ..[12] الآية، بكلام حسن يؤيد ما تقدم وهذا نصه قال رحمه الله: (قال الواحدي وغيره: (أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود في رواية أبى الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة، وروى ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ[13]، قال: (هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلاً ونهاراً)، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: (هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل)، وهذا قول مكحول، وهذا اختيار أبي إسحاق أيضاً، وقال: أكثر ما جاء في التفسير، أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء؛ لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى.
قال الواحدي: (قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن)، قال: (ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية لعله أن لا يكون أنفق مالاً)، قال: (وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق)، قال الواحدي: (وهذه الآية على هذا التفسير، تدل على تحريم الغناء)، قال: (وأما غناء القينات فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي قال: ((من استمع إلى قينة صب في أذنه الآنك يوم القيامة)). والآنك الرصاص المذاب، وقد جاء تفسير: لهو الحديث بالغناء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد، ومسند عبد الله بن الزبير الحميدي وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة، والسياق للترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام))، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وهذا الحديث وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها إن شاء الله تعالى.
ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، فقال: (والله الذي لا إله إلا هو، هو الغناء) يرددها ثلاث مرات وصح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضاً أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير من كتاب المستدرك: (ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند)، وقال في موضع آخر من كتابه: (هو عندنا في حكم المرفوع)، وهذا وإن كان فيه نظرة فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل، ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم ونحو ذلك، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث.
ولهذا قال ابن عباس: (لهو الحديث الباطل والغناء)، فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما، والغناء أشد لهواً وأعظم ضرراً من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا، ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه، لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبراً، كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقراً، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئاً استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفراً، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم يوضحه أنك لا تجد أحداً عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن، عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ، ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه.
والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[14])، انتهى كلامه رحمه الله.
ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني والمعازف وهي آلات الملاهي قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا[15]، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[16]، وقد فسر الصوت والزور: بالغناء وآلات الملاهي، وفسر الصوت أيضاً: بكل صوت يدعو إلى باطل، وفسر الزور بكل منكر، ولا منافاة بين التفاسير، ومدلول الآيتين، يعم ذلك كله، ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور، ومن أخبث أصوات الشيطان لما يترتب عليها من قسوة القلوب، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن، بل وعن جميع الطاعات إلا من رحم الله، كما قد سلف بيان ذلك.
وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي فكثيرة، وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه، حيث قال: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف))، وهو صريح في ذم مستحلي المعازف، حيث قرنهم مع مستحلي الزنا والخمر والحرير، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف، وهي آلات الملاهي، كالطنبور والعود، والطبل وغير ذلك من آلات الملاهي.
وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي، وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها، واشتغالها عن الصلاة والقرآن، وإذا انضم إليه الغناء، صار الإثم أكبر، والفساد أعظم، كما سيأتي كلام أهل العلم في ذلك، وقد تقدم لك بعضه.
وأما الحر: فيروى بالحاء المهملة والراء، وهو الفرج، والمراد به الزنا، ويروى بالخاء المعجمة والزاي، وهو نوع من الحرير، وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث، وتلقوه بالقبول، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها، وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده، تقليداً له بأنه منقطع بين البخاري رحمه الله وبين شيخه هشام بن عمار، لكونه لم يصرح بسماعه منه، وإنما علقه عنه تعليقاً، وقد أخطأ ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطؤه فيه؛ لأن هشاماً من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازماً به، وما كان كذلك فهو صحيح عنده، وقد قبل منه أهل العلم ذلك وصححوا ما علقه جازماً به إلى من علقه عنه، وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة، ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه، لكونه رواه عنه بالإجازة، أو في معرض المذاكرة أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات فحذفه اختصاراً أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف.
وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلاً، عن هشام بن عمار.. الخ.. بأسانيد صحيحة، وبذلك بطلت شبهة ابن حزم ومقلده أبي تراب، واتضح الحق لطالب الحق، والله المستعان.
وإليك أيها القارئ الكريم كلام أهل العلم في هذا الحديث، وتصريحهم بخطأ ابن حزم في تضعيفه.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري - رحمه الله - لما ذكر هذا الحديث، وذكر كلام الزركشي، وتخطئته ابن حزم في تضعيفه، قال ما نصه:
(وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها- يعني الزركشي - فقد سبقه إليها ابن الصلاح في علوم الحديث، فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجاً ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، ولا التفات إلى أبي محمد ابن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا: وقال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم، أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جواباً عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال، بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصحبها خلل الانقطاع) انتهى.
ثم قال الحافظ بعدما نقل كلام ابن الصلاح المذكور بأسطر ما نصه:
(وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحاً إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولاً، إلى من علق عنه بشرط الصحة، أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع، وصنفت كتاب [تغليق التعليق] وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي، وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولاً في مستخرج الإسماعيلي، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين، فقال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد، حدثنا هشام بن عمار، قال وأخرجه أبو داود في سننه، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، بسنده). انتهى.
وقال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه في الإغاثة، لما ذكر هذا الحديث ما نصه: (هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به وعلقه تعليقاً مجزوماً به، فقال: باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري - والله ما كذبني - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة))، ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه، إلا وقد صح عنده أنه حدث به، وهذا كثيراً ما يكون لكثرة ما رواه عنه، عن ذلك الشيخ وشهرته، فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض، فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه، يقول: ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر عنه، ونحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً، فالحديث صحيح، متصل عند غيره، قال أبو داود في كتاب [اللباس]: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس، قال سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك فذكره مختصراً، ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه: [الصحيح]، مسنداً، فقال أبو عامر ولم يشك.
ووجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالاً لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز، فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه، إذ الخز نوعان: أحدهما من حرير، والثاني من صوف، وقد روى هذا الحديث من وجهين.
وقال ابن ماجه في سننه، حدثنا عبد الله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير)) وهذا إسناد صحيح، وقد توعد مستحلي المعازف فيه، بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد، وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي، وعائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة.
ونحن نسوقها لتقربها عيون أهل القرآن، وتشجي بها حلوق أهل سماع الشيطان، ثم ساقها كلها.
ولولا طلب الاختصار لنقلتها لك - أيها القارئ الكريم - ولكني أحيل الراغب في الاطلاع عليها على كتاب الإغاثة، حتى يرى ويسمع ما تقر به عينه ويشفى به قلبه، وهي على كثرتها وتعدد مخارجها حجة ظاهرة، وبرهان قاطع على تحريم الأغاني والملاهي، والتنفير منها، تضاف إلى ما تقدم من الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الأغاني والمعازف، ويدل الجميع على أن استعمالها والاشتغال بها من وسائل غضب الله، وحلول عقوبته والضلال والإضلال عن سبيله، نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من ذلك، والسلامة من مضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو كثير جداً وقد سبق لك بعضه، وإليك جملة من كلامهم على سبيل التكملة والتأييد لما تقدم، والله ولي التوفيق.
روى علي بن الجعد وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع)، وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، والمحفوظ أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله، في كتاب الإغاثة، لما ذكر هذا الأثر، ما نصه:
(فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا، بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة، لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص، لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه، كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه: أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً، لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن إتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن إتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ، وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب على محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة؛ فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.
فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبة الذباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذكر ليلة وقـد اجتمعنــا على طيب السماع إلى الصباح؟
ودارت بيننا كأس الأغانـي فأسكرت النفـوس بغيـر راح
فلم تـر فيـهم إلا نشـاوى سرورا والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللـذات فيـه أجاب اللهو: حي على السمـاح
ولم نملك سوى المهجات شيئاً أرقـنــاها لألحـاظ المـلاح
وقال بعض العارفين: (السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم).
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش. وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقاً، فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان - كما سيأتي - فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبداً.
وأيضاً فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضاً فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق، وعمل بالطاعة وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن. والنفاق قول الباطل وعمل البغي وهذا ينبت على الغناء.
وأيضاً فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب والغناء من أكذب الشعر فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق.
وأيضاً: فإن النفاق غش ومكر وخداع والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضاً: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات.
قال الضحاك: (الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: (ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء، فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل القرآن تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق).
وقال ابن القيم في موضع آخر من الإغاثة: (قال الإمام أبو بكر الطرطوشي [وهو من أئمة المالكية] في خطبة كتابه في تحريم السماع: (الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنتجنبه، وقد كان الناس فيما مضى يستسر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر الله، ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل وقل العلم، وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى بلغنا أن طائفة من أخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو، وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله، وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين وخالفت الفقهاء وحملة الدين: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[17]، فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها؛ حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق.
ثم قال: (أما مالك فإنه ينهى عن الغناء وعن استماعه وقال: "إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب"، وسئل مالك رحمه الله عما رخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق")، قال: (وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب. وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة في المنع منه) انتهى كلام الطرطوشي.
قلت مراده بالطائفة التي أحبت الغناء وا